الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم} وهم علماؤهم ورؤساؤهم {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن المشتمل على الآيات، وتقديمُ المفعول للاعتناء به، وتخصيص الكثير منهم بهذا الحكم لِما أن بعضهم ليس كذلك {مِن رَبّكَ} متعلق بأنزل كما أن {إليك} كذلك، وتأخيره عنه مع أن حق المبتدىء أن يتقدم على المنتهي لاقتضاء المقامِ الاهتمامَ ببيان المنتهي، لأن مدار الزيادة هو النزولُ إليه عليه السلام كما في قوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء} والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتشريفه عليه السلام {طغيانا وَكُفْرًا} مفعول ثان للزيادة أي ليزيدنهم طغيانًا على طغيانهم وكفرًا على كفرهم القديمين إما من حيث الشدةُ والغلوُّ وإما من حيث الكمُ والكثرة، إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانُهم وكفرُهم بحسب المقدار كما أن الطعامَ الصالح للأصِحّاء يزيد المرضى مرضًا.{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي بين اليهود، فإن بعضَهم جبْريةٌ وبعضَهم قَدَرية وبعضهم مُرْجئة وبعضهم مشبِّهة {العداوة والبغضاء} فلا يكاد تتوافق قلوبُهم ولا تتطابق أقوالهم، والجملة مبتدأةٌ مَسوقة لإزاحة ما عسى يُتوهَّمُ من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمرٍ يؤدِّي إلى الإضرار بالمسلمين، قيل: العداوة أخصُّ من البغضاء، لأن كل عدوَ مبغضٌ بلا عكسٍ كليَ {إلى يَوْمِ القيامة} متعلق بألقينا وقيل: بالبغضاء.{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلةِ ما هم فيه إلى المسلمين، أي كلما أرادوا محاربة الرسول عليه الصلاة والسلام ورتبوا مبادِيَها وركِبوا في ذلك متنَ كلِّ صعب وذَلولٍ ردهم الله تعالى وقهرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد غُلبوا، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط الله تعالى عليهم بُخْتَ نَصَّرَ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرُسَ الروميّ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين، و{للحرب} إما صلةٌ لأوقدوا أو متعلق بمحذوف وقع صفةً لـ {نارًا}، أي كائنة للحرب {وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَادًا} أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثارةِ الشر والفتنة فيما بينهم مما يُغايرُ ما عبَّر عنه بإيقاد نارِ الحرب، و{فسادًا} إما مفعول له أو في موقع المصدر أي يسعون للفساد أو يسعون سعي فساد {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} ولذلك أطفأ ثائرةَ إفسادهم، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولًا أوليًا، وإما للعهد، ووضعُ المُظْهَرِ مَقام الضمير للتعليل وبيانِ كونِهم راسخين في الإفساد. اهـ.
فمراد اليهود هنا عليهم لعائنٍ الله أن الله بخيل، فأجاب سبحانه عليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بالبخل، فيكون الجواب عليهم مطابقًا لما أرادوه بقوله: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} ويجوز أن يراد غلّ أيديهم حقيقة بالأسر في الدنيا أو بالعذاب في الآخر، ويقوّي المعنى الأوّل: أن البخل قد لزم اليهود لزوم الظلّ للشمس، فلا ترى يهوديًا، وإن كان ماله في غاية الكثرة، إلا وهو من أبخل خلق الله، وأيضًا المجاز أوفق بالمقام لمطابقته لما قبله.قوله: {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} معطوف على ما قبله والباء سببية أي أبعدوا من رحمة الله بسبب قولهم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ}، ثم رد سبحانه بقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي بل هو في غاية ما يكون من الجود، وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الردّ عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء، فإن نسبة الجود إلى اليدين أبلغ من نسبته إلى اليد الواحدة، وهذه الجملة الإضرابية معطوفة على جملة مقدّرة يقتضيها المقام أي كلا ليس الأمر كذلك: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وقيل المراد بقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} نعمة الدنيا الظاهرة ونعمتها الباطنة.وقيل: نعمة المطر والنبات.وقيل: الثواب والعقاب.وحكى الأخفش عن ابن مسعود أنه قرأ {بل يداه بسيطتان} أي منطلقتان كيف يشاء.قوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} جملة مستأنفة مؤكدة لكمال جوده سبحانه أي إنفاقه على ما تقتضيه مشيئته، فإن شاء وسع، وإن شاء قتر، فهو الباسط القابض؛ فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة، لا لشيء آخر، فإن خزائن ملكه لا تفنى وموادّ جوده لا تتناهى.قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم} إلخ، اللام هي لام القسم: أي ليزيدن كثيرًا من اليهود والنصارى ما أنزل إليك من القرآن المشتمل على هذه الأحكام الحسنة {طغيانا وَكُفْرًا} أي طغيانًا إلى طغيانهم، وكفرًا إلى كفرهم.قوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي بين اليهود {العداوة والبغضاء} أو بين اليهود والنصارى.قوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} أي كلما جمعوا للحرب جمعًا وأعدوا له عدّة شتت الله جمعهم، وذهب بريحهم، فلم يظفروا بطائل ولا عادوا بفائدة، بل لا يحصلون من ذلك إلا على الغلب لهم، وهكذا لا يزالون يهيجون الحروب ويجمعون عليها، ثم يبطل الله ذلك، والآية مشتملة على استعارة بليغة، وأسلوب بديع {وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَادًا} أي يجتهدون في فعل ما فيه فساد، ومن أعظمه ما يريدونه من إبطال الإسلام وكيد أهله؛ وقيل المراد بالنار هنا الغضب أي كلما أثاروا في أنفسهم غضبًا أطفأه الله بما جعله من الرعب في صدورهم، والذلة والمسكنة المضروبتين عليهم.قوله: {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} إن كانت اللام للجنس، فهم داخلون في ذلك دخولًا أوّليًا، وإن كانت للعهد فوضع الظاهر موضع المضمر لبيان شدّة فسادهم، وكونهم لا ينفكون عنه. اهـ.
|